التلاعب بالدين عبر المنصات
التلاعب بالدين عبر المنصات
حوار الإعلامي أحمد طه مع أ/رحاب هاشم
التلاعب بالدين عبر المنصات بين الجدل والصراع
وبين التدين والتزمت أين يقع الخلل حوار الإعلامي أحمد طه مع أ/رحاب هاشم
في زمن تتسارع فيه التحولات الفكرية والاجتماعية وتتشابك فيه المفاهيم الدينية مع التوجيهات الثقافية يبرز هذا السؤال الذي يمس علاقتنا بالدين ويشكل سلوكنا اليومي ويحدد طريقة تعاملنا مع الآخر فدعونا أولا نفسر كلا منهما من خلال التوضيح من إجابة
أ/رحاب هاشم عن سؤالي هذا فقالت
إن التدين : هو التفاعل العملي والروحي مع الدين بحيث يصبح الدين منهج حياة لا مجرد شعائر أو مظاهر فهو التزام نابع من الإيمان يترجم إلى سلوك ويعبر عن نفسه في الرحمة والعدل والتواضع وحسن المعاملة فالمتدين الحقيقي لا يقيس تدينه بعدد الصلوات فقط أو بأركان الإسلام والإيمان بل بمدى أثرها في تهذيب نفسه وتعامله مع الناس
أما التزمت : فهو الميل إلى التشدد ورفض التعدد الفقهي والفكري والتمسك الحرفي بالنصوص دون اعتبار للسياق أو المقاصد فالأزمنة والعقول متغيره وبالرغم أن القرآن ذكر كل شيء ( لاريب فيه ) إلا أن أقوال الفقهاء تعددت بعد دراستهم وأبحاثهم لتعدد المفاهيم والأفكار ولتوضيحها لكل العقول ولو تعمقنا في رؤيتهم لوجدناهم متفقين لا مختلفين
وكان سؤالي التالي ما السبب في الخلل بين التدين والتزمت ؟
فأجابت أ/رحاب
غالبا ما يرتبط بالخوف أو الحاجة إلى السيطرة أو ضعف الفهم العميق للدين فالمتزمت لا يرى في الدين رحمة بل يراه أداة للفرز والتصنيف ويغفل البعد الإنساني والروحي للنصوص ولذلك دعا القرآن الكريم إلى التدين المتزن وحذر من الغلو حين قال تعالى
( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ) ويثني على من آمنوا وكانوا يتقون " لا من تشددوا وتكلفوا
بل كانت الرحمة قبل الحكم نموذجا لمعاملة النبي (ص) للتدين الرحيم لا المتزمت القاسي حين جاءه الشاب أمام الصحابة يستأذنه في الزنا فلم يصرخ فيه بل حاوره بلطف حتى اقتنع حينما قال له (ص) أتحبه لأمك ثم سأله عن ابنته وأخته وعمته وخالته وفي كل مرة كان يجاوبه الشاب (لا والله جعلني الله فداءك ) فرد عليه النبي (ص) ولا الناس يحبونه لبناتهم ولأخواتهم ....إلخ ثم وضع النبي (ص) يده على صدره وقال
( اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه) فما كان بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء
وحين بال الأعرابي في المسجد وكان ذلك حديث عهد الإسلام لا يعرف آداب المسجد لم يعنفه بل نرى رفق النبي بهذا الجاهل حينما ثار الناس على الأعرابي ليقعوا به ( أي ثاروا عليه يريدون ضربه أو طرده ) فقال النبي (ص) دعوه لاتزرموه ( أي لا تقطعوا عليه بوله ولا تمنعوه بعنف دعوه يكمل حاجته ثم نعالج الأمر بهدوء ) ثم أمر بسكب دلو من ماء على بوله وهذا يظهر فقه التدرج والرفق لأن منعه فجأة قد يؤدي إلى انتشار النجاسة أكثر أو إيذائه نفسيا أو تنفيره من الدين ثم قال ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
وسار الصحابة من بعده على نهجه صلوات الله عليه ورضوان الله عليهم فنرى عمر بن الخطاب رغم شدته كان يقول " اللهم إن كنت تعلم أني لا أحب أن أقيم حدا على أحد من عبادك فاغفر لي " وكان ابن عباس يخالف في مسائل فقهية لكنه لا يكفر ولا يفسق بل يحاور ويبين
ثم كان سؤالي إذن فما مظاهر الخلل ( بين التدين والتزمت ) في عصرنا الحالي وما نجده على مواقع التواصل الاجتماعي
أجابت أ/رحاب
للأسف هذا ما نراه من بعض المشايخ والدعاة في توجيهاتهم في الخطاب الديني لمخاطبة الشباب والفتيات بل وكافة الناس على مواقع التواصل الاجتماعي حين يركزون على الحلال والحرام فقط دون الحديث عن المقاصد والرحمة وحين يصور الدين كمنظومة عقوبات لا كمنظومة هداية فيفقد الناس الطمأنينة بل وبعض المنصات تضخم الفتاوى الشاذة وتروج لخطاب التشدد مما يربك المتلقي الذي يبحث عن فهم عميق لا أوامر صارمه ويشوه صورة الدين ويحول الدين إلى ساحة جدل وصراع بل وبعض المؤثرين يقدمون الدين بأسلوب قاسي ينفر بدل أن يقرب فنجد الخطاب يغذي التزمت ويضعف التدين المتزن وتدور حلقات البثوث على المنصات بين الجدل والصراع وكأنه موضوع اجتماعي غير متعلق بقوة الدين ومرونته وفهمه الصحيح بوقاره واحترامه
وبسؤالي أ/رحاب
كيف انتشر في عصرنا الحالي ما يسمى ب " التدين المظهري
أجابت : أولا
أصبح الدين يقاس باللباس أو بطريقة الكلام أو ببعض الشعائر الظاهرة دون اعتبار للسلوك أو الأخلاق أو الرحمة هذا النوع من التدين يغفل جوهر الدين ويركز على القشور مما يسهل تحوله إلى تزمت
بل والبعض يتظاهر بكونه شيخا أو داعيا فخرا بمكانته العلمية أو قراءته لبعض كتب الدين وحفظه لبعض الأحاديث النبوية وذكرها أمام الناس حتى أننا نجد بعض المشايخ يخطب خطابه الديني في محاضرة أو حلقة دينية دون العمل به فنرى البعض منهم يسرق ويأكل حقوق الآخرين ويتكبر في معاملته مع الناس لمركزه ولقبه بكونه شيخا أو داعيا للدين وهذا لا علاقة له بالدين إنما هو سلوكه البشري الذي قد يرجع لتربيته وبيئته ومن هنا الناس تستعجب من أفعاله التي تعكس أقواله وخطابه الديني ومحاضراته في الدين
فهناك فرق بين إلقائه العلم وسلوكه فقد يكون مؤدي فقط ولا يمارس مايقوله في حياته ومعاملاته وهنا يمكن الاستعانة بالاية الكريمة التي تقول ( أتأمرون الناس بالبر وتتسون أنفسكم )
ثانيا : كما أن غياب التربية الروحية للأبناء في كثير من البيئات يربي الأبناء على الطاعة الشكلية لا على الفهم الصحيح والعميق للدين وعلى الخوف من العقوبة لا على حب الله فينتج جيلا متدينا هشا يمارس الدين كواجب ثقيل لا كعلاقة حب وسكينة مما يهيئه للتزمت أو للانفصال عن الدين لاحقا
وهنا تدارج في ذهني استفسار هل توافقيني أن ذلك قد يرجع إلى الأسباب النفسية والاجتماعية لهذه الشخصيات المتزمته
فأجابتني أ/رحاب
نعم فقد يكون هذا التزمت ما هو إلا
١_ الخوف من الخطأ أو العقوبة فيجعل البعض لا يتمسك بالتفاصيل الدقيقة ظنا أن ذلك يحصنه من الذنب
٢_ الحاجة إلى اليقين الكامل ففي عالم مليء بالشكوك يبحث البعض عن إجابات صارمة فيجدها في التزمت
٣_ ضعف الحوار الأسري والديني فيحول الدين إلى أوامر لا تتاقش فيغلق باب الفهم ويفتح باب التشدد
أو يلجأ إلى الجدال في البثوث عبر المنصات في أمور دينية ويسأل أشخاص عاديين غير متخصصين في الحكم فيها لعدم تعمقه في دراستها وإدراكه الوافي فيخضع لمناقشاتهم السطحية
٤_ البيئة المغلقة التي تعزز الانغلاق الفكري وترفض التعدد الفقهي والفكري وتصور الاختلاف كتهديد أيضا
وهنا سؤالي إذن كيف نعيد التوازن في فهم الدين وأن الدين يسر وليس عسر ؟
أجابت أ/رحاب يمكن أن نسرد ذلك في تقاط وهي
١_ التربية على فهم الدين ومقاصده وروحه لا على حفظ الأحكام فقط
٢_ تقديم القدوة لا الأوامر فالقدوة تجسد التدين الحقيقي الذي ينتج الرحمة والتواضع
٣_إعادة صياغة الخطاب الديني الذي يحتاج إلى من يخاطب العقل والروح ويقدم الدين كرحمة وهداية لا كمنظومة عقوبات
٤_ تعزيز الحوار والاعتراف بالتعدد الفقهي والفكري يحصن من التزمت ويعزز التدين المتزن
ثم سألت أ/رحاب هاشم
كيف نتحرى الصدق في كل ما يقال عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيما يخص المسائل الدينية والفقهية من خطابات وفتاوى لبعض الأشخاص الذين يدعون فهمهم بالدين وبأنهم مشايخ ويتلاعبون بعقول الناس ليشتتوهم على هذه المنصات؟
أجابت أ/رحاب
أولا الفتوى ليست حكما شرعيا مطلقا بل اجتهاد بشري في ضوء النصوص والواقع لذا لابد من معرفة أن الفتوى قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال وتؤخذ الفتوى من أهلها في دار الإفتاء لذلك قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) والمقصود من أهل الذكر هنا كل عالم ودارس في مجاله أي أن الطبيب أهل ذكر في مجاله والقاضي أهل ذكر في مجاله والمعلم أهل ذكر في مجاله والمهندس أهل ذكر في مجاله.....إلخ كذا الدارس والباحث في علوم القرآن والفقه هو أهل الذكر في مجاله ومكانه في دار الإفتاء حيث أنه يتدارس الأمر مع نخبة من الباحثين والدارسين في علوم القرآن والحديث والفقه حول مسألة وقعت في نفس العصر فيتدارسونها مع أهل الذكر في نفس مجال المسألة المطروحة من متخصصين فيها ثم يصدرون الفتوى الموثقة من دار الإفتاء بعد مناقشتها و اجماع الرأي عليها من أهل العلم والفتوى المتخصصين لإصدار الفتوى بالأدلة الوافية وشرح مقاصدها
فإن كانت هذه المسألة في مجال الطب مثلا حول موضوع ما وليكن ( الاستنساخ ) فتسمع الفقهاء لرأي الطب فيها ثم لرأي القضاء فيها ثم يبحثون في النصوص الشرعية ليتوصلوا بالإجماع على أنه محرم شرعا فتصدر دار الإفتاء بالأدلة تحريمها وأسباب التحريم
ومقصدي من هنا ليس كل من ادعى أنه شيخا أو داعيا نأخذ برأيه سواء في حلقات الدين أو المساجد أو على منصات التواصل الاجتماعي وإن تعجب البعض بقولي في المساجد لأن في المساجد شيوخ للخطبة أيام الجمع والمناسبات وهم موثقين من دار الإفتاء بذلك تحت إشرافهم وبمراجعة الخطبة قبل إلقائها واعتمادها من دار الإفتاء فهو يعتبر شيخ يلقي خطبة كمحاضرة وله فيها أن يعرض بعض الآراء الفقهية ولكنه ليس مفتي تؤخذ منه الفتوى ولذلك من هنا تقع الناس في الخلل في أخذ المعلومة صحيحة وأنا هنا لا أعيب على شيوخ المساجد وإنما أوضح أنهم ليسوا مفتتين وإنما يشرحون محاضرة دينية في الخطب بالمساجد ويوضحون آراء الفقهاء فيها وليسوا مفتيين
ثانيا : الخطاب الديني ليس كله علما فبعضه رأي وبعضه توجيه وبعضه عاطفة وعلينا أن نميز بين
ما هو " نقل موثق "
وما هو " اجتهاد شخصي "
ثالثا : هناك خطوات عملية لتحري الصدق
أ/ التثبت من المصدر
( هل المتحدث معروف بالعلم والورع _ هل له خلفية علمية واضحة من حيث طلب علم أو دراسة شرعية او تزكية من أهل العلم _ هل ينتمي إلى مؤسسة علمية معتبرة أم أنه يعمل منفردا بلا رقابة أو مراجعة ؟)
ب/ مراجعة النصوص الأصلية
( هل الفتوى أو الرأي يستند إلى نص قرآني أوحديث صحيح أم لا _ هل تم عرض النص كاملا أم اقتطع منه ما يخدم رأيا معينا _ هل تم فهم النص في سياقه أم أخرج عن معناه؟ )
ج/مقارنته بالرأي الفقهي المعتمد
( هل الرأي المطروح له سابقة في كتب الفقه _ هل يخالف إجماعا أو قولا راجحا دون دليل قوي _ هل يراعي المقاصد الشرعية أم يغفلها ؟)
د/ النظر في الأسلوب
( هل الخطاب يثير الخوف والقلق أكثر من الطمأنينة _ هل يستخدم فيه أسلوب التهديد والتصنيف _ هل يدعو فيه إلى التفرقة والعداوة بدلا من الرحمة والتفاهم؟)
ثم سألت أ/رحاب ما علامات التلاعب بالدين عبر المنصات؟
أجابت : نجد ذلك في الاستعراض الديني للشخص حيث يستخدم الشخص الدين كوسيلة للشهرة أو التأثير لا الهداية _ الفتاوى المثيرة للجدل التي تطرح لجذب الانتباه لا لحل مشكلة واقعية _ الخطاب المتشدد أو المتساهل جدا وكلاهما يخفي خللا في الفهم أو نية غير سليمة _ التحريض على الآخر باسم الدين سواء كان الآخر مذهبيا أو فكريا أو حتى اجتماعيا
ثم جاء سؤالي كيف نحمي أنفسنا وأبناءنا من ذلك التلاعب ؟
أجابت أ/رحاب
١_تعزيز التربية الفقهية والروحية فلا يكفي أن نعلم الأحكام بل نعلم كيف نفكر دينيا
٢_ تشجيع الحوار مع أهل العلم الحقيقيين لا الاكتفاء بما يقال على المنصات
٣_ غرس قيمة التثبت والتأني " فتبينوا" ليست فقط في الأخبار بل في كل ما يقال باسم الدين
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
٤_ استخدام المنصات بحذر فلا نأخذ الدين من مقاطع قصيرة أو منشورات مجهولة بل من مصادر موثوقة وعلى القائل أن يذكر مصادره التي اعتمد عليها في النقل والإخبار بها
وختاما سؤالي لك أ/رحاب هل يمكن بناء عقلية فقهية ناقدة؟
أجابت أ/رحاب نعم
فلابد أن نربي أنفسنا على السؤال لا التسليم وعلى الفهم لا الحفظ وعلى التمييز لا التبعية فالدين ليس أداة للسيطرة بل رسالة للرحمة ومن يحوله إلى سلاح يخالف جوهره فعلينا أن نعيد بناء علاقتنا بالعلماء الحقيقيين لا بالمؤثرين الدينيين الذين يجيدون الخطابة أكثر من الفقه .. اللهم احفظ شبابنا وفتياتنا وأمتنا من الفتن
التعليقات الأخيرة