السدّ.. حل أم كارثة؟
السدّ.. حل أم كارثة؟
هبة هيكل
الشعور بالخطر والغضب عندما يتعلق الأمر بمصادر حياتنا الأساسية — الماء والغذاء — أمر مفهوم وطبيعي. لكنّ دعواتٍ متزايدة لِـ«ضرب السدّ» كحلّ سريع لمخاوف الفيضان أو الجفاف ليست فقط خطأً أخلاقياً وقانونياً، بل هي أيضاً اقتراحٌ يختزل مشكلةً معقّدة في فعلٍ يُفضي على الأغلب إلى كارثة إنسانية وبيئية لا تعود عليها المنطقة لعقود. في هذا المقال أشرح علمياً وبوضوح لماذا الضرب ليس حلّاً، ما هي المخاطر الحقيقية، وما البدائل العملية التي تحمي الشعوب وتُدار بها المياه بمسؤولية.
لماذا ضرب السد خطر وليس حلًّا؟
أولاً، تدمير سد كبير لا يزيل الخطر بل يزيده سوءاً. السدود الضخمة تحجز كميات هائلة من المياه خلف بنيات خرسانية أو ترابية. تدميرها فجأة سيُطلق هذه الكميات دفعة واحدة محدثاً فيضانات هائلة تهدّد حياة مئات الآلاف إن لم يكن الملايين في المناطق المنخفضة أسفل النهر. هذا ليس مجرد كلام نظري: أي تفجير أو انهيار جزئي يمكن أن يُنتج موجة مميتة، يعقبه دمار للبنى التحتية ومصادر المياه والزرع لسنوات.
ثانياً، التأثير طويل الأمد قاتل أيضاً. الفيضان لا يقتصر على موجة واحدة: الرواسب، الملوثات، والمواد العضوية التي تنقلب مع الكارثة يمكن أن تُلحق ضرراً دائماً بمصادر مياه الشرب، وتصيب المحاصيل بالأضرار وتُعطل شبكات الري والغذاء. وتعويض ذلك اقتصادياً واجتماعياً يحتاج سنوات وربما عقود.
ثالثاً، على المستوى القانوني والدولي، أي هجوم متعمد على منشآت مدنية مترتّب عليه موت مدنيين أو تشريدهم يمكن أن يندرج تحت جرائم الحرب أو الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. ثمّ هناك خطر التصعيد العسكري والسياسي الذي لا يمكن احتسابه بسهولة.
هل يشكل «تجاوز قدرة السدّ العالي ومنافذ تصريفه» خطراً لمصر؟
نعم — لكنه يعتمد على سيناريوهات فنية وإدارية. السدود الكبرى، بما فيها السد العالي، مصممة بقدرات تصريف متعددة: توربينات لتوليد الطاقة، منافذ تصريف سفلية، ومصارف تجاوز (spillways). الخطر يحدث عندما يكون التدفق الوارد أكبر من القدرة الإجمالية للتصريف أو عندما لا يُجرى تفريغ احتياطي مناسب قبل موجات فيضانية كبيرة. في هذه الحالة يرتفع منسوب الخزان وقد يصل إلى مستوى يهدد سلامة المنشأة أو يفيض فوق التاج، ما يؤدي إلى تآكل وخطر فشل هيكلي.
لكن أيضاً من المهم التأكيد: لا يوجد سد محمي 100% من سيناريوهات فائقة الاستثنائية. لذلك تبقى مراقبة البيانات، التنبؤات الهيدرولوجية، وصيانة مخرات التصريف والخطط الطارئة أموراً حاسمة لتقليل المخاطر.
ماذا نفعل عملياً بدل الدعوات العنيفة؟
1. التنسيق والوساطة الدولية: تفعيل دور المنظمات الدولية وإقليمية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والبنك الدولي) للوساطة وضمان شفافية البيانات والقرارات المتعلقة بملء وتشغيل أي سدود كبرى.
2. لجان فنية مشتركة: فرق من مهندسين وهيدرولوجيين من جميع الدول المعنية تعمل على معايير تشغيل مشتركة وجداول ملء وتصريف توافقية.
3. مراقبة آنية وإنذار مبكر: تبادل بيانات لحظية عن منسوب النهر والتدفّق والطقس، وأنظمة إنذار مبكر للمناطق المنخفضة وخطط إجلاء فعالة.
4. خطط تفريغ مرنة: تنفيذ سياسات تفريغ مسبقة ومدروسة قبل مواسم الأمطار القوية لتفادي تراكم مفرط.
5. بناء المرونة المحلية: تحديث شبكات الري، اعتماد تقنيات زراعية موفرة للمياه، إنشاء خزانات وسيطة صغيرة، وتعزيز البنية التحتية لحماية الضفاف.
6. الطريق القانوني والدبلوماسي: اللجوء لآليات التحكيم والقضاء الدولي إذا فشلت القنوات الدبلوماسية، مع العمل على اتفاقيات ملزمة تحمي حقوق الشعوب في الموارد المائية.
خاتمة — حكم العقل والمصير المشترك
الخلاص الجماعي من خطر محتمل لا يأتي عبر فعلٍ وحشي يؤدي إلى موتٍ جماعي أو تدمير طويل الأمد. إنما يأتي عبر العقلانية، العلم، والتعاون. ضرب السد قد يمنح شعوراً انتقامياً لحظةً، لكنه سيولد كارثة طويلة لا يبررها أي خوف أو غضب. الحلول العملية تتطلب إدارة فنية دقيقة، شفافية، وإرادة سياسية للحوار والتنسيق. إذا أردنا إنقاذ الناس والمياه والزراعة والاقتصاد — يجب أن يكون العمل المشترك والاستعداد العلمي هو خيارنا الوحيد العقلاني والمسؤول.
التعليقات الأخيرة