• مصر
  • الثلاثاء، ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٥
  • أخر تحديث 02:30:56 PM
news-details
مقالات

الإبداع في زمن الضجيج الرقمي

الإبداع في زمن الضجيج الرقمي
بقلمي

 
ربا رباعي/الاردن 

مقدمة

في عصرٍ تتقاطع فيه الشاشات مع أنفاس البشر، وتُطلق الإشعارات صفارات إنذارٍ لا تنتهي، يصبح الضجيج الرقمي واقعًا لا مفرّ منه، بل مكوّنًا أساسيًا في يومياتنا. هذا الضجيج ليس مجرد خلفية، بل طابعٌ يشكّل عالمنا: حيث الصور تُعرض آلافًا في الدقيقة، والكلمات تُنشر بآنٍ واحد، والانفعالات تُستدعى عن بُعد، في لحظةٍ واحدة تجمع بين الحضور الرقمي والغربة الإنسانية. في هذا الواقع، يصبح الإبداع ليس ترفًا أو خيارًا فحسب، بل ضرورة — مقاومة للسطحية، دفقة من المعنى، ترجمة للذات في ضوء الأضواء الزائغة والمفاهيم المستعجلة.

كيف يُثمر المبدع وسط هذا العزف الرقمي المزدحم؟ كيف يُبقي صوته فريدًا، عميقًا، لا صدىً للضوضاء؟ هذا ما سيقودنا إليه هذا المقال: تحليلٌ لتأثير الضجيج الرقمي على الإبداع، استكشافُ الفرص التي يتيحها، مواجهة التحديات، وأخيرًا، اقتراحات عملية لإنماء الإبداع الثابت في أصالته.

أولًا: تأثير الضجيج الرقمي على الإبداع

1. تشتّت الانتباه وعمق التجربة

الضجيج الرقمي يقتطع الانتباه على نحو درامي. الإشعارات، التنقل بين التطبيقات، الضوضاء البصرية – كلها تجعل اللحظة مقسمة إلى شظايا لا تترك مجالًا للتأمل، أو للاستمتاع بالهدوء. وقد أشارت دراسات علم النفس المعرفي إلى أن الانقطاع المتكرر يقلل من قدرة الفرد على التركيز العميق، وعلى إدراك التفاصيل الدقيقة، مما يُضعف تجربة الإبداع الداخلي.

2. السطحية وتقصير مدارك المعنى

حين يُستهلك المحتوى بسرعة، يصبح الشعر العميق، المقال المتأنٍّ، الرواية المُتقنة، كلها مهددة بالتجاوز أو التجاهل. الكلمات البسيطة، العبارات المتكرّرة، الصور الاستهلاكية تنتشر أكثر من النصوص التي تحتاج وقتًا للاختراق، للتأمل، لاستدعاء العقل والوجدان معًا.

3. إجهاد معرفي ونفسي

الإكثار من المنبهات الضوئية، المشاركة الاجتماعية تحت ضغط المقارنات، الشعور بضيق الوقت، كله يؤدي إلى قلقٍ دائم، إلى التعب الذهني، وإلى هدورٍ في القدرة على الإبداع الحقيقي. هذا الإجهاد لا يؤثر فقط على ما نكتب، بل على ما نفكّر فيه، على كيف نرى العالم، على اشتغال الروح.

ثانيًا: الفرص التي يتيحها الزمن الرقمي للإبداع

1. التكنولوجيا كأدوات للتجديد

الواقع الافتراضي، الواقع المعزز، التوليد الاصطناعي للنصوص والصور، الوسائط المتعددة – كلها أدوات تسمح بتجريب الأشكال، بالخروج من حدود الورقة، بل من حدود اللغة نفسها. يمكن أن تُنسَج الكلمات بالألوان، تُروى القصص بالصوت، تُبصَّر المشاهد عبر الواقع الافتراضي، فتنتج تجارب حسّية جديدة لا كانت متاحة من قبل.


2. العالم القريب والبعيد، التواصل المفتوح

الناشر الرقمي، المدونة، المنصات الإلكترونية الاجتماعية، كلها تُقرب المبدع من جمهور عالمي. يمكن لقاصٍ من القاهرة أن يصل إلى قارئ في طوكيو؛ يمكن لملف صوتي أن يُستمع إليه في قريةٍ بعيدة. هذا النشر اللحظي يعطِي تغذيةً فوريةً، ملاحظاتٍ، نقدًا، تفاعلًا – كل ذلك يُسهم في تبيّن الصوت الخاص.


3. الابتكار في الشكل والمضمون

الأدب التفاعلي، النصوص متعددة الوسائط، السرد الموزّع بين الصوت والصورة والنص، التجريب الزمني – كل هذا يُتيح تجديدًا في ملامح الأدب، في شروطه، في علاقته بالمتلقي، في قدرته على المواكبة والتمرد في آنٍ واحد.


4. إحياء الهوية الثقافية، صوغ التراث في صيغة جديدة

يمكن للمبدع أن يستدعي الفلكلور، الأساطير، الشعر الكلاسيكي، اللغة التراثية في سياقات رقمية؛ أن يخلطها مع الحس المعاصر، أن يضفي عليها حسًا بصريًا أو سمعيًا رقميًا؛ فتصبح الهوية جسراً بين الماضي والمستقبل وليس سجلًّا يتردّد.

ثالثًا: التحديات التي تقف أمام ثبوت الإبداع وأصالته

1. المقارنات العالمية ومأزق الاستنساخ

بوفرة المحتوى الرقمي وعولمة الصور، يشعر بعض المبدعين المحليين بأنهم أقل مستوى، مما قد يدفعهم لمحاكاة الأساليب الأجنبية أو الاتجاهات الرائجة بدل بناء صوتهم الخاص.
2. الملكيّة الفكريّة والأخلاق في عصر الذكاء الاصطناعي

من يملك النصَّ الذي أنتجّه خوارزمية الذكاء الاصطناعي؟ وما هي المسؤولية الأدبية والقانونية عند استخدام النصوص المُولَّدة جزئيًا أو كليًا؟ كيف نحمي الحقوق، كيف نمنع الانتحال، كيف نضمن أن الإبداع بشريّ جزئيًا على الأقل؟

3. التحوّل من منتِج إلى مستهلك

مشاهد الفيديو القصير، التمرير السريع، المحتوى الفوري – كلها تُحفّز على استهلاك بلا إنتاج، بلا التزام، بلا خلق. والإبداع يحتاج التزامًا بالصمت، بالبحث، بالخطأ، بالإعادة.

4. تآكُل اللغة والأسلوب

السرعة تُشجّع التعبير البسيط، التبسيط المخل، التأثر اللغوي الأعمى بالميمات أو الرموز العابرة. تتراجع الصور الفنية، الاستعارات، التمثيلات الرمزية، في مقابل العبارات السطحية التي تُفهم فورًا ولا تُثير الحاجة للتأمل.


أمثلة أدبية تُضيء وسط الضجيج

> من قصيدة “الموهبة” لعبد الرحيم الصغير
لقد تمْر الحنين
الأغاني حنين الرُطب
النخيل يسوق الطيور إلى الذكريات
ويترك خيمته للمهبّ
لا تبوح الرياح بوجهتها للغمام
ولا الغيم يفتح للنهر باب الكلام
الفجاءات تثقب نسيانها
بين حينٍ وحين وتعوي
فتهبط في القبو جعجعة الحرب بين الرضا والغضبْ
آه من زهرةٍ تلمس الجرح

هذا الشعر يدلّ كيف يمكن لصورة واحدة، لكلمة مترفعة، أن تختصر شعورًا عميقًا، أن تجعل القارئ يتوقف، يتساءل، يشعر – وليس أن يمرّ مرور الكرام.

من النثر المعاصر، مقتطف من وصفٍ لنصوص مثل “شات” أو “صقيع” لمحمد سناجلة، حيث يُرَى أن هذه النصوص تمثّل «حالة ثقافية عربية جديدة، تعتمد الإبداع الرقمي تعبيرًا جديدًا عن الذات والعالم». كذلك مقالة «الأدب الرقمي.. نصوص تحرّض على الابتكار رغم الانتقاد» في البيان، والتي تقول:

> "والتواصل الرقمي عبارة عن نقلة إبداعية في طرق التواصل بين البشر، والأدب بطبيعته تأثر كما تأثر غيره من الإنتاج الإبداعي بما يسمى الرقمي أو الافتراضي أو الإلكتروني… ما يحدد معايير الأدب في الرقمي هو ذاته ما يحدد معاييره بعيداً عنه، فالمعايير ثابتة ومنها نميز الجيد من الرديء."

رابعًا: مراجع واقعية وأجنبية

إلى جانب المراجع المحليّة التي ذكرتَها، إليك بعض المصادر الأجنبية التي تُثري البحث:

Nicholas Carr, The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains (2010) — يناقش كيف يؤدي الاستخدام المكثّف للإنترنت إلى تغييرات في الانتباه والتفكير العميق.

Sherry Turkle, Reclaiming Conversation: The Power of Talk in a Digital Age (2015) — تتعرض لمسألة الصمت والحوار البشري وسط ضجيج الوسائط الرقمية.

Maryanne Wolf, Proust and the Squid: The Story and Science of the Reading Brain — عن كيف تغيّر القراءة وطبيعة التفاعل مع النصوص حين تكون عبر الشاشات.

خاتمة: اقتراحات عملية لبناء إبداع ثابت الأصول ومقاوم للضجيج

لأن الإبداع لا يُستجدى، بل يُبنَى، أقترح الآتي:

1. فرض لحظات للهدوء المُنتقى
خصّص ساعةً يوميًّا أو جزءًا من اليوم — صباحًا إن أمكن — تُغلق فيها الأجهزة، تُستدعى الأنفاس، تُدرَج فيها القراءة العميقة أو الكتابة التأملية أو التأمّل في الطبيعة.
2. وضع حدود رقمية

تقليل عدد الإشعارات، جدولة أوقات التصفّح، التزام بفترات دون الهاتف، دون الإنترنت، للتركيز، للتفكير، لإنتاج. هذا الانقطاع المؤقت يكون قطعة أرضٍ صالحة يُزرع فيها الإبداع.
3. التدريب على الأسلوب واللغة

قراءة الشعر الكلاسيكي، النثر الأدبي العالي، دراسة الصور الفنية والاستعارات، التدريب على رسم الصور، الابتعاد عن التبسيط المخلّ دون مبرر، وتعلّم كيف تُجمل الكلمات، كيف تُكرّر الصور بما يُعمّقها، لا بما يُشعّرك بالرتابة.
4. توظيف التكنولوجيا بدلاً من أن تُسيطر

استخدام الأدوات الرقمية التي تزيد من الإنتاج لا الاستهلاك: البرمجيات الإبداعية، برامج الكتابة التي تساعد على التنظيم، أدوات توليد الأفكار، الواقع المعزز إن اقتضى الأمر، لكن دائمًا مع مقعدٍ تُسيطر فيه أنت على العملية، لا أن تستسلم لتدفق المحتوى.

5. بناء مجتمع إبداعي وداعم

الانخراط مع قرّاء، نقّاد، مبدعين آخرين، ورش عمل أدبية، منتديات ثقافية رقمية تُشجّع النقد البنّاء، التبادل الأدبي، الموسيقية النصيّة المشتركة، حتى المعارض الرقمية التي تُبرز الأصوات الجديدة
إجمال

الإبداع في زمن الضجيج الرقمي ليس رفاهية؛ إنه فعل مقاومة، فعل أصالة. هو شهادة على أن البشر لا يزالون قادرين على التأمل، على إنتاج الجمال، على استنباط المعنى من بين الضوضاء. إنّ من يريد أن يُبدعَ حقًا، ينبغي أن يعيد بناء صمته، أن يصنع لنفسه مساحات من الوعي، أن يجعل لغته تنبض، أن يكون صوته لا صدىً

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا