• مصر
  • الاثنين، ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥
  • أخر تحديث 11:29:19 PM
news-details
مقالات

الصنعة الجاهلية في قصائد الصعاليك

الصنعة الجاهلية في قصائد الصعاليك


يشكّل شعر الصعاليك أحد أصدق المرايا التي تعكس روح العصر الجاهلي في أقصى تجلياته الإنسانية والفنية؛ إذ تتقاطع فيه الصنعة الجاهلية، بمعناها الفني الرفيع، مع صدق التجربة القاسية التي عاشها أولئك الخارجون عن سلطة القبيلة. فالصنعة هنا ليست تكلّفًا لغويًّا، بل براعة في تحويل الألم إلى فن، والعزلة إلى بيانٍ متمرّد.

لقد كان الصعاليك، كعروة بن الورد، والشنفرى، والسليك بن السلكة، فئةً منبوذة اجتماعياً، ولكنها سامقة أدبياً. عاشوا الفقر والجوع والبرد، وواجهوا الموت في الصحراء، غير أنهم واجهوا كل ذلك بشعرٍ يفيض شجاعةً وكرامةً وتمرّدًا. ومن ثمّ جاءت لغتهم قاسية الملمس، صافية الجوهر، صادقة النبرة؛ فهي لغة الصحراء التي لا تعرف الزيف.

وتتجلى الصنعة الجاهلية في شعرهم أولاً من خلال اللغة والأسلوب؛ إذ استبدلوا الألفاظ المزخرفة بأخرى واقعية صلبة، تنبض بالمعاناة وتقطر عرقاً ودمعاً. يقول عروة بن الورد:

> “ولله صعلوك صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور”
في بيت كهذا تتبدّى المهارة اللغوية في بساطتها، إذ يجمع بين صفاء الصورة وقسوة الواقع.

ثم تتجلّى الصنعة في وحدة الموضوع؛ فقصائدهم لا تتشعب كما في المعلقات، بل تتركز على تجربة واحدة: الحرمان، أو الجوع، أو التمرّد، مما يمنح القصيدة تماسكًا شعوريًا وإيقاعًا متينًا. ويقول الشنفرى:

> “وإني لحلو إن أريدت حلاوتي / ومُرّ إذا نفس العزوف استمرّ”
وهنا يظهر الاتساق بين الشكل والمضمون، فالمقابلة بين “حلو” و”مرّ” تعكس ازدواجية الصعلوك بين اللين والعناد.

أما البيئة الصحراوية فليست خلفية جامدة، بل كائن حيّ يشارك الشاعر وحدته. فالريح والليل والرمضاء والفرس ليست رموزاً عابرة، بل شركاء في رحلة البقاء. إن الطبيعة في شعرهم تتكلّم بلغتهم، وتئنّ لأنينهم.

كذلك تتبدّى الصنعة في الجرأة والصدق؛ فالشاعر الصعلوك لا يوارب، ولا يمدح من أجل عطية، بل يصرخ في وجه القهر. يقول السليك بن السلكة في إحدى قصائده:

> “ألمَّ خيالٌ من أميّةَ بالرَّكبِ …”
فتنثال الصورة كما لو كانت لقطة سينمائية: خيال، قافلة، تعب، وحسرة.

إن البراعة الفنية لدى الصعاليك تكمن في المفارقة بين القسوة والموسيقى؛ فهم يحافظون على الوزن والقافية بدقةٍ عالية، رغم بساطة اللغة وجفافها، فيخلقون من القفر لحنًا، ومن الحرمان جمالاً. تلك الصنعة الجاهلية الأصيلة هي ما جعلت شعرهم خالدًا، لأنه يجمع بين الصدق والمعمار الفني، بين الفطرة والصياغة.

ووراء هذا الفن، تختبئ قيم أخلاقية عميقة: الكرم، والحرية، والمساواة، والوفاء. فالصعلوك لا يسرق طمعًا، بل عدلاً، كما فعل عروة حين كان يأخذ من الأغنياء ليطعم الفقراء. وهكذا صارت الصنعة لديهم انعكاسًا للقيم، لا للزخرف اللفظي.

في الختام؛ فإن الصنعة الجاهلية في شعر الصعاليك ليست صناعة البيان بقدر ما هي صناعة الإنسان. لقد جعل هؤلاء الشعراء من معاناتهم أسلوبًا، ومن عزلاتهم مدرسة، ومن تمرّدهم فنًّا خالدًا. وهكذا غدت قصائدهم صرخة جمالية تتوهّج في صمت الصحراء، وتثبت أن الإبداع يولد من الوجع كما يولد النور من النار.

المراجع

يوسف خليف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف.

بحث “القيم الخلقية في شعر الشنفرى”، مجلة الآداب العربية، جامعة الجزائر.

بحث “مظاهر الكرم في مجتمع الصعاليك – كرم عروة بن الورد أنموذجًا”، منصة ASJP الجزائرية.

ديوان عروة بن الورد، دار الكتب العلمية.




ربا رباعي 
الاردن

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا