الحضور الغيابي.. لعبة الوقت في قاعة المحكمة
ع
الحضور الغيابي.. لعبة الوقت في قاعة المحكمة
الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
في قاعة المحكمة، الوقت مش مجرد ساعة على الحائط، ده سلاح قاتل. دقيقة واحدة ممكن تغيّر مصير قضية، ويوم واحد ممكن يحول البراءة إلى إدانة أو العكس. القوانين مليانة مواعيد وضوابط، لكن قليل من الناس — وحتى بعض المحامين — بيستوعبوا إن “الوقت في القضاء” مش رقم، بل فعل قانوني له أثر حياة أو موت على الورق. من هنا تبدأ الحكاية: “الحضور الغيابي”، تلك اللعبة التي يتقنها القانون، ويخسرها من لا يقرأ الساعة جيدًا.
القصة دايمًا تبدأ بلحظة بسيطة: جلسة محددة، وخصم غائب. القاضي ينادي على القضية، الطرف التاني مش حاضر، فيُعتبر “غائبًا”، وتصدر المحكمة حكمًا غيابيًا في مواجهته. البعض يظن إن الغياب مجرد ظرف مؤقت، لكن في القانون، الغياب فعل له تبعات، والحضور واجب له آثار. لأن القانون لا ينتظر من لا يحترم مواعيده، ومن يغِب عن ساحة القضاء، يترك المجال مفتوحًا للخصم كي يصنع الحكاية وحده.
كلمة “غيابي” في الأحكام مش كلمة عابرة، هي وصمة قانونية مؤقتة تفتح الباب لمراحل أخرى: المعارضة، الاستئناف، الطعن. لكن هنا تبدأ اللعبة الحقيقية: لعبة الوقت. المشرّع المصري، كغيره من التشريعات العربية، نظم مواعيد دقيقة للطعن في الأحكام، وكل ميعاد فيها محسوب بالساعات، مش بالأيام فقط. يوم تأخير واحد، حتى لو كان بعذر، ممكن يُسقط الحق في الطعن، وتتحول القضية من “قابلة للمراجعة” إلى “نهائية”.
المحامون يعرفون هذا جيدًا، لكن في زحمة العمل، وضغط الجلسات، وأحيانًا بسبب الإهمال الإداري، تضيع المواعيد. والمأساة أن الخطأ الزمني لا يُصلَح بعد فواته. فيه قضايا اتخسرت مش لأن الدليل ضعيف، ولا لأن الدفاع سيئ، لكن لأن المحامي قدم الطعن بعد الميعاد بيوم واحد. القانون لا يعرف العاطفة، ولا يجامل “النية الطيبة”. المواعيد في القضاء مثل حدود الجراحة: دقيقة واحدة زيادة تعني كارثة.
ومن جهة أخرى، “الحضور” نفسه مش مجرد وجود جسدي في القاعة، بل إجراء قانوني له أثر محدد. فالمتهم الذي يُعلن إعلانًا صحيحًا ولا يحضر، يُعتبر حاضرًا حكمًا في بعض الحالات. أما إن كان الإعلان باطلًا، فالغياب لا يترتب عليه الأثر. هنا يظهر الفرق بين “الغياب الحقيقي” و“الغياب القانوني”. الأول غياب جسد، والثاني غياب مستند. والمحامي الذكي هو من يُفرّق بين الاثنين، لأن الطعن على الحكم الغيابي يبدأ من تاريخ العلم به رسميًا لا من تاريخ صدوره فقط.
القانون أشبه بلعبة شطرنج مع الزمن، وكل حركة محسوبة. إعلان الخصم، استلام الصورة التنفيذية، ميعاد الطعن، ميعاد الإعلان، كلها خيوط متشابكة لو فُقد منها خيط واحد، ممكن تنهار القضية. مثلًا، لو الحكم صدر غيابيًا، يبدأ ميعاد المعارضة من يوم إعلان المحكوم عليه بالحكم، لا من يوم صدوره. لكن أحيانًا المحامين ينسوا ده، فيستأنفوا الحكم بدل المعارضة، فيُرفض الاستئناف شكلاً، لأن الطريق القانوني كان مختلفًا.
الخطأ الزمني مش دايمًا سوء نية، لكنه غالبًا سوء تنظيم. بعض المحامين الشباب بيغرقوا في العمل، ينقلوا تواريخ الجلسات على ورق، ينسوا متابعة البريد القضائي، أو يعتمدوا على سكرتير المكتب. لكن القانون لا يعترف إلا بالإجراء، لا بالنية. لذلك، المحامي المحترف هو اللي عنده نظام دقيق لتتبع المواعيد، يعرف كل ميعاد بداية ونهاية، وكل إجراء لازم يحصل قبله. لأن في المحاماة، الذاكرة لا تكفي.. لازم التقويم.
ومن زاوية تانية، الحضور الغيابي مش مجرد خطأ إداري، لكنه أحيانًا تكتيك قانوني. بعض المحامين يستخدمون الغياب المقصود كاستراتيجية لتأجيل الحكم، أو لفتح باب المعارضة لاحقًا. في بعض القضايا الجنائية مثلًا، يختار المتهم عدم الحضور حتى لا يُنفّذ الحكم فور صدوره، ويستفيد من مرحلة المعارضة لربح الوقت. القانون يسمح بذلك في حدود، لكنه في نفس الوقت، لا يحمي من يتلاعب بالمواعيد. فالمعارضة لا تُقبل إلا إذا كانت في الميعاد الصحيح، وإلا أصبح الحكم نهائيًا واجب التنفيذ.
لكن يظل الخط الفاصل دقيقًا بين الذكاء القانوني والتهور الزمني. المحامي الذي يعرف متى يحضر ومتى يغيب، هو الذي يعرف متى يتكلم القانون ومتى يصمت. الحضور مش دايمًا نصر، والغياب مش دايمًا هزيمة. أحيانًا الغياب بيمنح فرصة جديدة، لكن فقط لمن يفهم قوانين الوقت.
ومن أخطر ما يواجهه المحامون في الواقع المصري هو الإعلانات القضائية المعيوبة. إعلان يتم في غير محل الإقامة الصحيح، أو في وقت غير قانوني، ممكن ينسف الحكم من أساسه. ومع ذلك، كثير من القضايا تضيع لأن المحامي لا يراجع محضر الإعلان بدقة، ولا يطعن عليه في الوقت المناسب. والكارثة أن الإعلان الباطل إذا لم يُطعن عليه خلال المدة، يصبح صحيحًا بحكم السكوت. يعني ببساطة، “من سكت ضيّع حقه”.
في بعض القاعات، تشوف محامي داخل متأخر دقايق عن النداء، فيسمع القاضي بيقول: “حكمت المحكمة”. هو ما اتأخرش كتير، لكن في نظر القانون، فات الميعاد. هنا الزمن مش رقم، الزمن حكم.
الوقت في القضاء له هيبة، مش بس لأنه يحدد سير العدالة، لكن لأنه يميز بين المهني والدخيل. المحامي اللي يعرف يقرأ المواعيد بدقة، بيكسب حتى قبل ما يدخل المرافعة. لأن أغلب القضايا الكبيرة بتُحسم مش في الدفاع، لكن في الميعاد.
افهم دايمًا إن الغياب قرار له ثمن. لو ما حضرتش جلسة، اسأل محاميك فورًا عن طريقة الطعن وميعاده. كل يوم بيعدي بيخصم من حقك.
راجع كل إعلان بيصلك. الإعلان هو بداية الوقت القانوني. لو في خطأ في العنوان أو في الطريقة، لازم تطعن عليه فورًا.
لو الحكم غيابي:
المعارضة هي طريقك، مش الاستئناف. والمعارضة لازم تتقدم خلال المدة القانونية من تاريخ إعلانك بالحكم.
لو إنت محامي شاب:
متعتمدش على الذاكرة، نظم شغلك بنظام إلكتروني أو دفتر مواعيد قضائية، وسجل كل تاريخ بدقة، لأن الوقت هو سلاحك الحقيقي.
لو الخصم اتأخر أو ما حضرش:
ما تعتبرش ده نصر مؤكد. القانون ممكن يديه فرصة جديدة من خلال المعارضة أو الاستئناف. فخليك دايمًا مستعد إن المعركة ما خلصتش.
في النهاية، “الحضور الغيابي” مش مجرد مصطلح، ده فصل كامل من دراما العدالة. في كل جلسة، في محامي بيسابق الزمن، وقاضٍ بيحكم بالساعة، وخصم بيحاول يكسب بالانتظار. واللي فاهم اللعبة مش هو اللي يتكلم كويس، لكن اللي يحضر في الوقت الصح. لأن في عالم القضاء، العدالة تحب المواعيد الدقيقة، واللي يتأخر عنها، يخسرها إلى الأبد.
التعليقات الأخيرة