• مصر
  • الاثنين، ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥
  • أخر تحديث 02:03:56 AM
news-details
مقالات

الشركة العائلية.. قنبلة موقوتة في القانون المصري

الشركة العائلية.. قنبلة موقوتة في القانون المصري


الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر 


في مصر، تبدأ أغلب الشركات العائلية بحلم جميل، وبنوايا طيبة لا يختلف عليها أحد، يجلس الأب وسط أولاده، يوزّع الأدوار، ويقول بثقة الأب ومهابة الكبير: "اللي ليا ليكم.. نكبر سوا". تُبنى الشركة الأولى على محبة الدم، لا على نصوص القانون، فالأخوة لا يحتاجون إلى عقد مكتوب، والوالد لا يتوقع أن يأتي يوم يختلف فيه أولاده على الأرباح أو القرارات، والكل يظن أن الرحم أقوى من البنود. لكنّ الواقع المصري أثبت أن أكثر ما يُفجّر الخلافات في عالم الشركات هو الدم نفسه، لأن الشركة العائلية حين تُدار بالعاطفة فقط، تتحول بمرور الوقت إلى قنبلة مؤجلة، تنفجر في وجه الجميع عند أول خلاف.

القانون المصري لم يغفل وجود هذا النمط من الشركات، لكنه تعامل معه بحذر، فهو لم يضع "شركة عائلية" كتصنيف مستقل، بل تركها تقع داخل أحد الأشكال القانونية العامة كالمساهمة أو التضامن أو ذات المسؤولية المحدودة، لكنه لم يتدخل في طبيعة العلاقات العائلية التي تربط الشركاء، لأنه ببساطة لا يستطيع أن يُشرّع للمشاعر أو ينظّم الأخوّة. وهنا تبدأ الأزمة الحقيقية، لأن القانون لا يعرف كلمة "ثقة"، بل يعرف "التزامًا"، ولا يعترف بالدم، بل بالعقود. فحين يحدث الخلاف، لا يرى القاضي أمامه أبًا وابنًا، أو أخًا وأخته، بل يرى شركاء في كيان تجاري، أخلّ أحدهم بالتزاماته أو استغل سلطاته، فتتحول العائلة الواحدة إلى خصمين أمام المحكمة التجارية، وتُقطع صلة الرحم بسطر في محضر جلسة.

المشكلة الأكبر في الشركات العائلية أنها تُؤسس غالبًا دون وعي قانوني حقيقي. فالعائلة تظن أن تسجيل الشركة يكفي، وأن المحامي مجرد إجراء شكلي. لا أحد يُفكّر في وضع قواعد للخلاف، أو آلية لتوزيع الأرباح، أو نظام لانتقال الحصص بعد الوفاة، لأنهم جميعًا يؤمنون أن الموت لا يفرّق بين الأحبة. لكن حين يأتي القدر، وتنتقل الحصص للورثة، تبدأ الحرب الباردة بين الجيلين، فالأب الذي كان يملك القرار لم يعد موجودًا، والأبناء الذين كانوا شركاء صامتين أصبحوا خصومًا فاعلين، وكل واحد منهم يرى نفسه الأحق بالإدارة، والأذكى في السوق، والأكثر فهمًا لتاريخ العائلة. ومع غياب نظام أساسي واضح يُحدّد كيفية إدارة الشركة بعد المؤسس، تتحول الشركة من مشروع ناجح إلى ساحة صراع شرس بين الورثة، وغالبًا ما تكون نهايتها البيع أو التصفية، وكأن ما بُني في ثلاثين عامًا ينهار في عام واحد.

القنبلة الموقوتة في الشركات العائلية ليست المال، بل "الخلط بين الملكية والإدارة". كثير من العائلات تظن أن من يملك أكثر هو من يجب أن يدير، وهذا من أخطر المفاهيم. الإدارة علم ومهارة، لا تورث مع الأسهم، والشركة التي تُدار بالمجاملات العائلية تموت ببطء، لأن القرارات فيها تُتخذ بالعاطفة لا بالمصلحة. ولأن القانون لا يتدخل في سوء الإدارة طالما لم يحدث تجاوز مالي، يظل النزيف الداخلي قائمًا حتى تنهار الشركة. الحل هنا ليس في النصوص القانونية، بل في وعي الشركاء بضرورة فصل الإدارة عن الملكية، وتعيين مدير محترف حتى لو لم يكن من العائلة، لأن الشركة في النهاية ليست "عزبة"، بل كيان له شخصية مستقلة عن الأشخاص.

الملف الأخطر أيضًا في الشركات العائلية هو انتقال الحصص بالوراثة. كثير من المؤسسين يغفلون كتابة اتفاق ينظم هذه المرحلة. في القانون، تنتقل الحصص تلقائيًا للورثة، لكن هل جميع الورثة مؤهلون للإدارة؟ بالطبع لا. ومع غياب اتفاق مسبق، نجد أنفسنا أمام ورثة لا يجمعهم سوى اللقب، يتنازعون على القرارات كأنهم غرباء. بعض الدول العربية واجهت هذه المعضلة بوضع ما يُسمى بـ “الميثاق العائلي” أو Family Charter، وهو اتفاق داخلي بين أفراد العائلة يسبق الخلاف، يحدد قواعد التعامل بعد الوفاة، ونسب الإدارة، وآلية اتخاذ القرار، دون الحاجة للجوء إلى القضاء. أما في مصر، فما زالت هذه الفكرة غريبة، وكأننا نخاف أن نكتب الحقيقة قبل أن تقع.

الشركة العائلية في جوهرها مرآة للمجتمع المصري نفسه؛ عاطفية، مثالية في البداية، ثم واقعية حتى القسوة في النهاية. كثير من هذه الشركات تبدأ بحلم نبيل وتنتهي بكارثة، لا لأن القانون ظالم، بل لأننا لم نحترم وجوده من البداية. القانون لا يتدخل إلا عندما يُطلب منه، لكنه لا يستطيع إنقاذ من يصر على إدارة شركته بمنطق “إحنا إخوات، محدش هيظلم التاني”. الحقيقة أن الظلم في الشركات العائلية لا يأتي من نية سيئة، بل من سوء الفهم. الأخ الأكبر يرى نفسه القائد الطبيعي، والأصغر يرى أنه مهمش، والزوجة ترى أن زوجها أحق من باقي الورثة، وكل طرف لديه مبرراته. لكن حين تخرج الأمور عن السيطرة، لا تنفع العاطفة ولا التاريخ المشترك، لأن المحكمة لا تقضي بالحب، بل بالأوراق.

الحل الحقيقي يبدأ من لحظة التأسيس، حين يتعامل المؤسس مع الشركة ككيان مستقل، لا كامتداد للعائلة. يجب أن تُكتب القواعد من البداية، لا عندما تشتعل الخلافات. يجب أن تُدار الشركة بمنطق القانون، لا بمنطق المجالس العائلية. ويجب أن يتعلم الجيل الجديد أن الحفاظ على الشركة ليس حفاظًا على المال فقط، بل على إرث اسم العائلة ذاته. الشركة التي تُبنى على الثقة فقط تنهار عند أول اختبار، أما التي تُبنى على النظام والشفافية، فهي التي تستمر وتكبر حتى وإن تغيّر الأفراد.

في النهاية، الشركة العائلية ليست مشكلة قانونية بقدر ما هي معضلة إنسانية. القانون وضع الحلول، لكن الناس ترفض تطبيقها بدعوى "إحنا أهل، ومفيش بينا ورق". ومع أول أزمة، يصبح الورق هو طوق النجاة الذي يبحثون عنه بعد فوات الأوان. لذلك، لا يمكن اعتبار الشركة العائلية قنبلة في ذاتها، بل هي قنبلة فقط عندما تُدار بالعاطفة وتُؤسس على النيات. أما حين تُبنى بالقواعد، وتُدار بالاحتراف، وتُحكم بالعدل لا بالقرابة، تتحول من خطرٍ محتمل إلى نموذج ناجح يُورث من جيلٍ إلى جيل.

ولعل الحقيقة التي لا يريد الكثيرون الاعتراف بها هي أن القانون لا يهدد الشركات العائلية، بل يحاول إنقاذها من نفسها. فالشركة التي ترفض أن تخضع للقانون، تخضع حتمًا للفوضى، والشراكة التي تُبنى على الدم وحده، تنتهي غالبًا بالدموع. أما من اختار أن يكتب عقده بوضوح، وأن يُقسم الإدارة بالعقل، وأن يُبقي العاطفة في البيت لا في مجلس الإدارة، فهو وحده من يملك أن يقول بفخر: شركتنا عائلية.. لكن قانونية.

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا