• مصر
  • الاثنين، ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥
  • أخر تحديث 02:13:47 AM
news-details
مقالات

الذكاء الاصطناعي وامتحان الوعي الإنساني

الذكاء الاصطناعي وامتحان الوعي الإنساني


بقلم: أسامة حراكي

يُعد الذكاء الاصطناعي ثمرة بارزة من ثمار الحداثة المتقدمة، وتعبيراً صارخاً عن التراكم المعرفي والقدرات الفائقة التي راكمها الإنسان عبر العصور، من التجريب إلى النمذجة فالخوارزميات، غير أن هذا الكائن الجديد، الذي لا جسد له، بدأ يستوطن البنية الذهنية للعصر، لا باعتباره مجرد أداة وظيفية، بل بوصفه قوة فاعلة، متوغلة في تفاصيل الحياة اليومية، بل ومهددة في أحيان كثيرة بتقويض الحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة.

إن الذكاء الاصطناعي لا يُعنى فقط بإعادة تشكيل الاقتصاد والاتصال والمعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة الوعي ذاته، إذ كيف لإنسان يمتلك وعياً مركباً وحساً أخلاقياً، ووجداناً يختزن ملايين الخبرات، أن يقبل بمشاركة قراراته المصيرية مع برنامج، صُمم ليحاكي الذكاء، لكنه يفتقر إلى التجربة الشعورية؟ هنا تحديداً يكمن التوتر الحاد بين الوعي الإنساني ككُلية روحية، والذكاء الاصطناعي كمنتَج تكنولوجي.

ليس من المبالغة القول إن هذا التوتر قد كشف عن هشاشة الفكر الإنساني المعاصر، الذي وجد نفسه مأسوراً بسحر الكفاءة والسرعة والدقة، على حساب المعنى والغاية والروح، ولعل هذه النزعة نحو التعظيم المفرط لقدرات الذكاء الاصطناعي، ما هي إلا مرآة لخيبة عميقة في الذات الإنسانية، وخوف دفين من الفشل المتكرر في بناء مجتمعات عادلة، وعلاقات متوازنة، ومؤسسات تُعلي من قيمة الإنسان.

ومع ذلك، فإن هذا الكائن غير العضوي، الذي يُغدق على البشرية خدمات لا تُنكر، يظل مشروطاً بأخلاقيات من يطوره، فإن لم تُضبط برمجياته بقيم الحق والخير والعدالة، فلن يكون إلا أداة جديدة في يد التوحش الرأسمالي، وجندياً طيعاً في جيوش التحكم والسيطرة، فالتقنية في جوهرها ليست محايدة، إنها كما يقول فلاسفة التكنولوجيا، تمثل إرادة مبيتة، تسعى إلى تشكيل العالم وفق منظور من صمموها.

لقد كشف الذكاء الاصطناعي عن مفارقة مؤلمة، فالإنسان الذي صنع هذا "العقل الإلكتروني" لم ينجح بعد في حل مشكلاته الوجودية الأولى، فلا يزال القتل والظلم والتفاوت الطبقي والحروب والمجاعات، مشاهد متكررة في النشرة اليومية لحياة القرن الحادي والعشرين، أي معنى لذكاء اصطناعي خارق، وإنسان اليوم لا يزال عاجزاً عن التفاهم مع جاره المختلف؟ أي جدوى من خوارزميات تنجز في دقائق ما يعجز العقل البشري عن تصوره، إذا كان الضمير الأخلاقي في تراجع مستمر؟

نحن إذاً أمام لحظة تاريخية مفصلية، تتطلب استعادة الوعي الإنساني بوصفه مركز الثقل في كل تقدم، لا يكفي أن نخترع آلات ذكية إن كنا نفقد تدريجياً إحساسنا بذواتنا، ونتنازل عن مسؤوليتنا الأخلاقية لصالح أنظمة تتعلم دون أن تحب، وتُقرر دون أن تتألم، وتُحلل دون أن تتأمل.

الذكاء الاصطناعي، كالتكنولوجيا من قبله، يمكن أن يكون جسراً إلى واقع أفضل، أو معولاً لهدم ما تبقى من تماسك بشري، وكل ذلك رهن بمقدار ما نملكه من نضج فلسفي، وشجاعة أخلاقية، وفهم عميق للشرط الإنساني.

إن الوعي وليس الكفاءة، هو ما سيحدد مصير العلاقة بين الإنسان والآلة، فإذا فشل الإنسان في الارتقاء بوعيه إلى مستوى هذه المرحلة الدقيقة، فلن يكون مستغرباً أن نقرأ بعد عقود عن كائن ذكي اصطناعي، يكتب تاريخ الإنسان من دون الإنسان.

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا