news-details
مقالات

الأبجدية السياسية بين الحنكة المهنية وفخ الاختصاص الطارئ

إعداد/ عدنان صگر الخليفه 

المقدمة
تُمثل الممارسة السياسية الحقيقية فنًّا معقداً يقوم على إدارة السلطة والتناقضات، وهو ما يُعبَّر عنه بـالأبجدية السياسية الحقيقية. إن الخلط بين هذه الأبجدية وبين الكفاءة التخصصية في مجالات أخرى يمثل إحدى أعقد الإشكاليات التي تواجه الأنظمة التوافقية اليوم، ولا سيما في التجربة العراقية ما بعد 2003. إن هذا البحث يهدف إلى تحليل الفوارق الجوهرية بين السياسي المُحنك والمُمتهن للعمل السياسي، وبين المتعلم والمثقف الذي يدخل الساحة السياسية بصفة طارئة، ويربط بين هذا الخلط والنتائج الكارثية المتمثلة في تآكل الدولة وتحول الحكم إلى أداة لخدمة النفوذ الحزبي.
الأبجدية السياسية: الفوارق الجوهرية بين الشخصيتين
التمييز بين السياسي المُحترف ذي الخلفية الثقافية، والأكاديمي أو المختص (التكنوقراط) الذي يطمح للعمل السياسي، ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة منهجية. يرتكز عمل السياسي المُحترف على "فن الممكن" (Realpolitik)، حيث هدفه هو تحقيق أقصى مكاسب للمصلحة الوطنية عبر التفاوض، المقايضة، وإدارة لعبة القوة المعقدة. خطأه يُقاس بفقدان الدعم السياسي والشرعية الشعبية. في المقابل، يرتكز الأكاديمي أو المختص على منطق الكفاءة والحل الأمثل، حيث خطأه يُقاس بالتناقض مع الدليل العلمي أو الربح الاقتصادي. إن وضع هذا المختص، بكفاءته الجزئية ومنطقه الذي يفتقر إلى الحنكة السياسية، في موقع القيادة يؤدي إلى الخصخصة الفكرية للقرار العام، حيث يُطبَّق منطق الكفاءة والربح على قضايا العدالة الاجتماعية والخدمات السيادية، مما يشل العملية السياسية برمتها.
الاستثمار السياسي ومخاطر الاختصاص الطارئ
تتحول السياسة في ظل غياب الأبجدية الحقيقية إلى "مشروع استثماري" يتم عبره شراء النفوذ. إن الإنفاق الملياري للوصول إلى مقعد برلماني، والذي يتجاوز بكثير العائد المالي الرسمي للمنصب، يبرهن أن الغاية هي الكسب غير المشروع عبر العمولات وابتزاز النفوذ. هذه المعادلة الاستثمارية تفرض على النخبة المتحكمة البحث عن نماذج قيادية تضمن تحقيق هذا العائد. وهنا يظهر دور الاختصاصات الطارئة؛ إذ تُستخدم هذه الكفاءات كواجهات تقنية تفتقر إلى الولاء الوطني الحر، ليصبح التكنوقراطي مجرد أداة لتمرير أجندات الكتل الحزبية التي تخدم الكسب السريع والمضمون، على حساب بناء الصناعة والزراعة التي تحتاج استثمارًا وطنيًا طويل الأمد.
ناتج النظام التوافقي: من القائد المُخَيّر إلى المنفذ المُسَيَّر
أثبتت الممارسة أن النظام القائم على المحاصصة يرفض إنتاج القائد الوطني المُخَيّر، ويختار عوضًا عنه المنفذ المُسَيَّر. هذا المنفذ يُمنح صلاحيات واسعة وظيفياً، لكنه يفتقد الإرادة الحرة في اتخاذ القرارات المصيرية. إن حريته الوحيدة تقتصر على الكسب الخاص والولاء للجهة المُموِّلة، بينما يُجبر على التسليم بالتنازلات في قضايا السيادة والتفاوض الخارجي والوطني. ولعل تجربة "حكومة الفرصة الأخيرة" التي جاءت بعد ثورة تشرين خير دليل، إذ لم تكن إصلاحاً حقيقياً بل كانت جسر عبور استُغل لامتصاص الغضب، ونجحت في قمع الأصوات الحرة والمبدعة وترسيخ وسائل السيطرة الإعلامية والأمنية، مما مهد الطريق للبحث عن "رأس" حكومي جديد أكثر قدرة على تنفيذ هذه الأجندة القمعية.
الانهيار الممنهج للأعمدة الوطنية الأربعة
إن هذا التدهور ليس مجرد إهمال عابر، بل هو نتيجة منطقية لكون النخبة السياسية المسيرة ترى في الدولة غنيمة وليست مسؤولية. وقد تجسد ذلك في الانهيار الممنهج لأربعة أعمدة أساسية: أولاً، تدمير الواقع التعليمي عبر إهمال الكادر والبنى التحتية، لإنتاج مجتمع مُجَهَّل يسهل السيطرة عليه ويُعجز عن المحاسبة. ثانياً، قتل القطاع الصناعي عبر الإيقاف المتعمد للمصانع الكبرى منذ عام 2003 لخدمة اقتصاد الاستيراد والعمولات. ثالثاً، تدمير القطاع الزراعي والفشل الذريع في إدارة ملف المياه والتفاوض السيادي، مما أدى إلى تصحر شامل وفقدان الأمن الغذائي. رابعاً، تحويل الواقع الأمني بشكل كامل من حماية الوطن والمواطن إلى حماية مقرات الأحزاب ومصالح السلطة الحاكمة.
الخاتمة
يؤكد هذا البحث أن استمرار الأزمة السياسية والأخلاقية في البلاد هو نتاج مباشر لـقوانين اللعبة التي فرضها نظام المحاصصة والتوافق، والتي حولت السياسة إلى استثمار فاحش ومضمون. إن الاعتراف بأن هذا النظام لا يمكن أن ينتج غير هذه النخبة المسيرة يضع المسؤولية على عاتق المصلحين لتبني هدف وحيد: تغيير المعادلة القانونية والدستورية التي صنعت هذا الواقع. إن الخروج من أزمة الأبجدية السياسية المقلوبة لن يتم إلا عبر استعادة إرادة التفاوض السيادي، وإعادة بناء الدولة على أسس من الكفاءة الوطنية الحرة، بعيداً عن منطق الاختصاص الطارئ والولاء الحزبي الضيق.

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا