حين تتحول الكتابة إلى اختبار أخلاقي: مساءلة نقدية في تجربة سارة طالب السهيل
القرار الإخباري _كتبت نسمه تشطة
في المشهد الثقافي العربي، حيث تختلط الأصوات وتتشابه الخطابات، نادرًا ما تفرض تجربة ما نفسها بوصفها ضرورة للقراءة لا خيارا للمرور. تجربة سارة طالب السهيل من هذا النوع؛ ليست لأنها الأعلى صوتا، ولا لأنها الأكثر إنتاجًا، بل لأنها تضع القارئ أمام إشكالية حقيقية: ماذا يعني أن تكون مثقفًا في زمن الاستهلاك الرمزي؟ وماذا يتبقى من الكلمة حين تُنزَع عنها مسؤوليتها الأخلاقية؟
منذ البداية، تبدو تجربة السهيل وكأنها تتحرك ضد التيار السائد فهي لم تتعامل مع الكتابة باعتبارها أداة صعود اجتماعي أو وسيلة تثبيت حضور، بل بوصفها ممارسة طويلة النفس، تتطلب صبرًا على الفعل لا استعجالًا للنتيجة. هذا الخيار جعل مسارها أقل صخبا، لكنه أكثر تماسكا، وأقرب إلى بناء مشروع ثقافي منه إلى صناعة صورة
تنتمي سهيل إلى بيئة مشبعة بالرمزية الإجتماعية والتاريخية، غير أن هذه الرمزية لم تتحول في خطابها إلى مادة تفاخر أو استدعاء تقليدي على العكس، تعاملت مع الإرث بوصفه عبئامعرفيا يحتاج إلى تفكيك بقدر ما يحتاج إلى احترام. فهي لم تكتب من موقع “الوريثة”، بل من موقع “السائلة”: ماذا نفعل بهذا الإرث؟ كيف نمنحه معنى معاصرا؟ وكيف نمنع تحوّله إلى قيد يعطّل التفكير بدل أن يغذّيه؟
هذا السؤال انعكس بوضوح على لغتها فاللغة عند السهيل ليست استعراضا بل أداة مساءلة نصوصها تميل إلى الوضوح، لكنها لا تقع في التبسيط، وتقترب من القارئ دون أن تساوم على العمق غير أن هذا الخيار الجمالي يضعها دائمًا على حافة دقيقة: حافة الفصل بين الأدب بوصفه فعلًا إبداعيا، والأدب بوصفه خطابًا أخلاقيا. وهي حافة خطرة، لأن الانزلاق إلى أحد الطرفين قد يُفرغ النص إما من جماله أو من معناه ومع ذلك، فإن وعيها بهذا التوتر هو ما يمنح تجربتها شرعيتها النقدية
في الشعر، لا تكتب سارة السهيل لتدوين العاطفة، بل لإعادة تنظيمها. الحب، الوطن، الذاكرة، والأنوثة، لا تظهر في نصوصها كموضوعات جاهزة، بل كبنى شعورية تخضع لإعادة تركيب القارئ لا يواجه انفجارًا لغويًا بقدر ما يواجه انسيابًا محسوبًا، وكأن الشاعرة تختار السيطرة على العاطفة بدل الانقياد لها وهذا الاختيار، رغم ما يمنحه من توازن، يفتح بابًا نقديًا مشروعًا حول حدود المغامرة الشعرية في تجربتها، ومدى استعداد النص أحيانًا للمخاطرة مقابل الأمان الجماليد
أما في أدب الطفل، فتبلغ التجربة إحدى أكثر مناطقها حساسية وتعقيدًا. هنا لا يكون السؤال: هل النص جميل؟ بل: هل النص عادل؟ لأن الكتابة للطفل ليست فعل إبداع فقط، بل تدخل مباشر في تشكيل الوعي. ما يميّز السهيل في هذا المجال هو إصرارها على مخاطبة الطفل ككائن كامل، لا كمساحة فارغة تُملأ بالقيم الجاهزة ومع ذلك، فإن هذا المسار، بطبيعته، يظل عرضة لخطر الخطاب التوجيهي إن لم يُعاد تجديد أدواته باستمرار. وهو تحدٍ لا يقلل من قيمة التجربة، بل يكشف ثقل المسؤولية التي اختارتها
في المجال العام، تتخذ تجربة سارة السهيل بعدًا آخر فهي لم تفصل يومًا بين النص والحياة، ولم تتعامل مع الثقافة كممارسة نخبوية معزولة عن الواقع الاجتماعي حضورها في القضايا الإنسانية، وخصوصًا تلك المتعلقة بالطفل والمرأة، لم يكن امتدادًا دعائيًا لاسمها، بل جزءًا من منطقها الداخلي: الكلمة التي لا تشتبك مع الألم الإنساني تفقد سبب وجودها. غير أن هذا التداخل بين الثقافي والإنساني يفتح سؤالًا نقديًا حادًا: هل يمكن للمثقف أن يظل ناقدًا وهو منخرط بعمق في الفعل الاجتماعي؟ أم أن القرب الشديد من القضايا قد يُربك المسافة اللازمة للتأمل؟
ما يجعل تجربة السهيل لافتة ليس خلوها من الإشكاليات، بل قدرتها على إنتاج هذه الإشكاليات فهي لا تقدّم نموذجًا جاهزًا للمثقف، بل تضعنا أمام تجربة تُصرّ على أن الثقافة ليست موقفا مريحا، وأن الكتابة ليست فعل ترف، وأن الصمت في بعض اللحظات قد يكون خيانة للمعنى
ربما تكون الحقيقة الأكثر إزعاجا في تجربة سهيل أنها لا تُدين أحدًا بشكل مباشر، لكنها تُحرج الكثيرين ضمنيا تُحرج المثقف الذي يكتفي بالنص ولا يقترب من الإنسان، وتُحرج الناشط الذي يرفع الشعارات دون عمق معرفي، وتُحرج الكاتب الذي يطلب من الكلمة أن تُنقذه دون أن يلتزم بما تفرضه عليه
الصدمة هنا ليست في ما كتبته، بل في ما كشفته دون أن تقوله صراحة: أن أزمة الثقافة العربية ليست في غياب المواهب، بل في غياب الشجاعة الأخلاقية. وأن أخطر ما يمكن أن يحدث للكلمة هو أن تصبح ذكية بلا ضمير، أو جميلة بلا موقف
في هذا المعنى، لا تُقدَّم سهيل بوصفها نموذجا مكتملًا، بل بوصفها مرآة غير مريحة. مرآة تضع القارئ، والمثقف، والمؤسسة الثقافية أمام سؤال لا يمكن الهروب منه:
هل ما نكتبه اليوم يستحق أن يبقى؟ أم أنه مجرد ضجيج مؤجل للنسيان؟
وهنا، تحديدًا، تكمن قوة التجربة… لا في الإجابة، بل في السؤال الذي تتركه مفتوحا بلا رحمة
التعليقات الأخيرة