news-details
مقالات

الفجوة المائية الخفية

الفجوة المائية الخفية


بقلم الدكتور:احمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض 

كيف يمكن لمصر تحويل أزمة سد النهضة إلى قيادة عالمية في اقتصاد 'المياه المعاد تدويرها'
في قلب أزمة سد النهضة التي تهيمن على الخطاب السياسي والاستراتيجي المصري، تكمن مفارقة تاريخية عميقة فبينما تتجه كل الأنظار نحو نهر النيل، المصدر التقليدي للحياة في مصر، تمر أمامنا ثروة مائية هائلة غير مستغلة، لا تأتي من النهر، بل من الصرف الصحي والزراعي والصناعي، إنها الفجوة المائية الخفية التي قد تحول التهديد الوجودي إلى فرصة تاريخية غير مسبوقة مصر، التي تواجه شحاً مائياً يضاعفه تحدٍ جيوسياسي معقد، ليست مجبرة على الخضوع لمعادلة الصراع على حصة المياه التقليدية فقط، بل يمكنها أن تختزل عقوداً من التقدم التكنولوجي لتدشن عصراً جديداً من القيادة العالمية في مجال اقتصاد المياه المعاد تدويرها، لتصبح من أكبر دول العالم إنتاجاً للمياه من خلال إدارة علمية وحكيمة لما يعتبره الآخرون مياهً مستهلكة .
الصورة ليست خيالاً علمياً، بل هي واقع عملي تتبناه دول متقدمة مثل سنغافورة وإسرائيل، حيث يتم تنقية مياه الصرف الصحي والزراعي إلى مستوى مياه الشرب، ليس فقط لتلبية الاحتياجات المنزلية، بل لري المحاصيل الزراعية وتغذية الصناعات الثقيلة، مما يخلق دورة مائية مغلقة تقلل من الهدر إلى الصفر تقريباً .
مصر تملك كل المقومات لتطبيق هذا النموذج على نطاق أوسع وأكثر طموحاً، فكميات المياه المهدرة في الصرف الزراعي وحده تقدر بمليارات الأمتار المكعبة سنوياً، يمكن أن تصبح النهر الجديد الذي يروي الصحراء، ليس فقط ببناء محطات التنقية العملاقة، بل بتبني ثقافة جديدة للاستهلاك تعتمد على مفهوم "المياه المنتجة محلياً"، حيث تصبح كل قرية وكل مدينة وكل منطقة صناعية وحدة منتجة للمياه، وليس مستهلكة لها فقط .
التحول إلى اقتصاد المياه المعاد تدويره لا يحل أزمة نقص المياه فحسب، بل يخلق اقتصاداً موازياً قائماً على التكنولوجيا الخضراء، من خلال تصنيع أنظمة الري الذكية، وتطوير تقنيات تنقية المياه محلياً، وتصدير الخبرات المصرية إلى دول ا المعضلة، مما يحول مصر من دولة مستوردة للأمن المائي إلى دولة مصدرة له .
هذا التحول يعيد لمصر زمام المبادرة الاستراتيجية، فبدلاً من أن تكون رهينة للسياسات المائية للدول الأخرى، تتحكم هي في مصدر مائي لا ينضب ولا يتأثر بالأحقاد السياسية أو تقلبات المناخ، وهو مصدر موجود داخل حدودها، متاح لها وحدها
لتحقيق هذه الرؤية، يجب أن تتحول أزمة سد النهضة من مصدر للقلق إلى حافز استثماري وإبداعي غير مسبوق، حيث يتم توجيه الاستثمارات الوطنية والدولية نحو أكبر مشروع قومي للمياه في تاريخ مصر، مشروع لا يعتمد على الحفر في الماضي، بل على البناء للمستقبل، باستخدام الطاقة الشمسية لتحلية المياه وتشغيل محطات التنقية، وبناء الشبكات الذكية لإعادة استخدام قطرة ماء.
في النهاية، قد ينظر التاريخ إلى أزمة سد النهضة ليس على أنها الكابوس الذي كاد يخنق مصر، بل الصدمة التي أيقظت العملاق من سباته، ودفعته إلى اختراع مستقبله المائي بيديه، ليقود المنطقة والعالم نحو فلسفة جديدة في إدارة المياه، حيث لا وجود لمياه مهدرة، بل وجود لمياه لم تجد بعد من يعيد اكتشاف قيمتها .

يمكنك مشاركته عبر

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا