نُّورُ فِي اَلظَّلَامِ
----------
فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةٍ الظُّلَامِ، حَيْثُ كَانَتِ الْمُدُنُ تَغُطُّ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ، اسْتَيْقَظَ حَسَنٌ، الْمُهَنْدِسُ الشَّابُّ فِي الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، الَّذِي يَعْمَلُ فِي شَرِكَةٍ كَبِيرَةٍ. شَعَرَ بِقُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَدْفَعُهُ نَحْوَ شَيْءٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ، فَطَارَتْ أَفْكَارُهُ كَطَائِرٍ مُهَاجِرٍ عَبْرَ سَمَاءٍ غَائِمَةٍ. وَفَجْأَةً، انْكَشَفَتِ الْغُيُومُ، وَبَزَغَتِ الشَّمْسُ مُشْرِقَةً، مَلَأَتِ النُّورَ قَلْبَهُ، وَكَأَنَّهُ وَجَدَ ضَالَتَهُ الْمَنْشُودَةَ.
وُلِدَ حَسَنٌ فِي مَدِينَةٍ صَغِيرَةٍ، حَيْثُ كَانَ وَالِدُهُ مُهَنْدِسًا يَعْمَلُ فِي شَرِكَةِ الْبَتْرُولِ. كَانَ حَسَنٌ يَقْضِي سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ فِي وَرْشَةِ وَالِدِهِ، يُرَاقِبُ كَيْفَ يَبْنِي الْأَشْيَاءَ وَيُصْلِحُهَا. كَانَ يُحِبُّ الرِّيَاضِيَّاتِ وَالْعُلُومَ، وَكَانَ دَائِمًا يَسْأَلُ وَالِدَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عَمَلِ الْأَشْيَاءِ.
عِنْدَمَا كَانَ فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ عُمْرِهِ، تُوُفِّيَ وَالِدُهُ فِي حَادِثِ عَمَلٍ، مِمَّا تَرَكَهُ فِي حَالَةِ صَدْمَةٍ كَبِيرَةٍ. قَرَّرَ حَسَنٌ أَنْ يُصْبِحَ مُهَنْدِسًا مِثْلَ وَالِدِهِ، لَيْسَ فَقَطْ لِكَيْ يُحَقِّقَ حُلْمَ وَالِدِهِ، بَلْ أَيْضًا لِكَيْ يَجْعَلَ الْعَالَمَ مَكَانًا أَفْضَلَ.
كَانَ يَأْمُلُ حَسَنٌ فِي أَنْ يُصْبِحَ مُهَنْدِسًا مِعْمَارِيًا مَشْهُورًا، يَصْمِمُ مَبَانِيَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْجَمَالِ وَالْفَائِدَةِ. كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ مَدِينَةً خَضْرَاءَ مُسْتَدَامَةً، تَكُونُ نَمُوذَجًا لِلْمُدُنِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ. كَانَ يَحْلُمُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عَائِلَةٌ سَعِيدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِأَطْفَالِهِ.
لَكِنَّ الْحَيَاةَ لَمْ تَكُنْ سَهْلَةً، فَقَدْ كَانَ حَسَنٌ يَخْشَى الْفَشَلَ، وَمِنْ عَدَمِ تَحْقِيقِ أَحْلَامِهِ. كَانَ يَقْلَقُ مِنْ أَنْ يَفْقِدَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ، كَمَا فَقَدَ وَالِدَهُ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، ظَهَرَتْ حَسْنَاءُ، الْمُعَلِّمَةُ فِي الْمَدْرَسَةِ الْابْتِدَائِيَّةِ، ذَاتُ الشَّعْرِ الْأَسْوَدِ الطَّوِيلِ وَالْعُيُونِ الزَّرْقَاءِ الْمُشْرِقَةِ كَالنُّجُومِ، تَحْمِلُ بَاقَةً مِنَ الزُّهُورِ الْبَيْضَاءِ. ابْتِسَامَتُهَا كَانَتْ كَالشَّمْسِ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ عَذْبٍ: "أَنَا هُنَا لِأَكُونَ مَعَكَ، نُورًا فِي حَيَاتِكَ."
كَانَتْ حَسْنَاءُ طَيِّبَةَ الْقَلْبِ، تُحِبُّ الْأَطْفَالَ وَتُؤْمِنُ بِالْحُبِّ وَالرُّومَانْسِيَّةِ. وُلِدَتْ فِي مَدِينَةٍ صَغِيرَةٍ، حَيْثُ كَانَتْ وَالِدَتُهَا مُعَلِّمَةً فِي مَدْرَسَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ. كَانَتْ تُحِبُّ الْأَطْفَالَ كَثِيرًا، وَكَانَتْ تَقْضِي سَاعَاتٍ طَوِيلَةً مَعَ وَالِدَتِهَا فِي الْمَدْرَسَةِ، تَسَاعِدُ فِي تَدْرِيسِ الصِّغَارِ.
سَأَلَ حَسَنٌ، وَهُوَ يَشْعُرُ بِالدَّهْشَةِ: "مَنْ أَنْتِ؟" أَجَابَتْ بِابْتِسَامَةٍ: "أَنَا حَسْنَاءُ، وَأَنْتَ؟" "أَنَا حَسَنٌ. سَعِدْتُ بِلِقَائِكِ، حَسْنَاءُ."
مَعَ مَرُورِ الْأَيَّامِ، تَحَوَّلَتْ عَلَاقَتُهُمَا إِلَى عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعِيشَانِ فِي سَعَادَةٍ وَهَنَاءٍ. كَانَا يَمْشِيَانِ يَدًا بِيدٍ فِي الشَّوَارِعِ الْهَادِئَةِ، يَتَحَدَّثَانِ عَنْ أَحْلَامِهِمَا وَطُمُوحَاتِهِمَا.
قَالَ حَسَنٌ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى عَيْنَيْهَا: "أَحْبَبْتُكِ، حَسْنَاءُ." أَجَابَتْ حَسْنَاءُ بِابْتِسَامَةٍ مَلَأَتْ قَلْبَهُ سَعَادَةً: "وَأَنَا أَحْبَبْتُكَ، حَسَنٌ."
لَكِنَّ الْحَيَاةَ لَمْ تَكُنْ دَائِمًا وَرْدِيَّةً، فَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، هَبَّتْ عَاصِفَةٌ قَوِيَّةٌ هَدَّدَتْ بِتَدْمِيرِ كُلِّ شَيْءٍ. لَكِنْ حَسَنٌ وَحَسْنَاءُ لَمْ يَسْتَسْلِمَا، بَلْ وَاجَهَا الْعَاصِفَةَ مَعًا، مُمْسِكَيْنِ بِأَيْدِي بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ.
بَعْدَ الْعَاصِفَةِ، وَجَدَا أَنَفُسَهُمَا فِي بُسْتَانٍ جَمِيلٍ، مُحَاطَيْنِ بِالزُّهُورِ وَالْأَشْجَارِ، تَحْتَ سَمَاءٍ زَرْقَاءَ صَافِيَةٍ. سَمِعَا صَوْتًا غَرِيبًا يَأْتِي مِنْ خَلْفِهِمَا، فَالْتَفَتَا لِيَجِدَا طِفْلًا صَغِيرًا يَبْلُغُ مِنْ الْعُمْرِ حَوَالَيْ خَمْسِ سَنَوَاتٍ، يَرْتَدِي مَلَابَسَ بَيْضَاءَ وَيَحْمِلُ زَهْرَةً فِي يَدِهِ.
قَالَ الطِّفْلُ: "أَنَا وَجَدْتُ هَذِهِ الزَّهْرَةَ فِي وَسَطِ الْعَاصِفَةِ. أَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَكُمَا."
سَأَلَ حَسَنٌ: "مَنْ أَنْتَ؟ وَكَيْفَ وَصَلْتَ إِلَى هُنَا؟" أَجَابَ الطِّفْلُ: "أَنَا نُورٌ. كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ وَالِدَيَّ. قَالُوا لِي إِنَّهُمْ سَيَعُودُونَ بَعْدَ الْعَاصِفَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا." قَالَتْ حَسْنَاءُ، وَهِيَ تُحْتَضِنُ نُورًا: "لَا تَقْلَقْ، نُورُ. سَنَجِدُ وَالِدَيْكَ. سَنَبْحَثُ مَعًا." احْتَضَنَاهُ بَعْضُهُمَا، وَنُورٌ يَبْتَسِمُ بَيْنَهُمَا، تَحْتَ سَمَاءٍ زَرْقَاءَ صَافِيَةٍ، مُحَاطًا بِالزُّهُورِ وَالْأَشْجَارِ. وَجَدُوا فِي الْحُبِّ الْقُوَّةَ الَّتِي تَجْعَلُهُمَا يَتَغَلَّبَانِ عَلَى الصُّعُوبَاتِ. نَظَرَ حَسَنٌ إِلَى حَسْنَاءَ، وَقَالَ: "أَنْتِ قَوَّيْتِ قَلْبِي، وَجَعَلْتِ حَيَاتِي أَجْمَلَ." أَجَابَتْ حَسْنَاءُ: "وَأَنْتَ جَعَلْتَ حَيَاتِي مَلِيئَةً بِالْحُبِّ وَالسَّعَادَةِ." فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، سَمِعَا صَوْتًا يَقُولُ: "الْحُبُّ هُوَ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ هِيَ الْحُبُّ." وَابْتَسَمَا، عَارِفَيْنِ أَنَّ حُبَّهُمَا سَيَبْقَى دَائِمًا، بَيْنَمَا كَانَ نُورٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِابْتِسَامَةٍ صَغِيرَةٍ، وَكَأَنَّ الْحُبَّ قَدْ وَجَدَ طَرِيقَهُ إِلَى قَلْبِهِ أَيْضًا.
--------------------------
بقلمى/ عادل عطيه سعده
جمهورية مصر العربية
التعليقات الأخيرة